من روائع السياب ،، قصيدة حفار القبور ..
سأضعها كاملة لمن يجد وقتا كافيا لقراءتها ...
القصيدة باختصار تحكي قصة رجل مهنته حفر القبور ، فتمر عليه أيام طويلة
لا يحفر قبرا ، فيوشك على الهلاك ،، فيتمنى ويدعو الله عز وجل بأن تقوم حرب مدمرة أو أن يفتك المرض
بالناس فيموتون لكي يعيش هو من حفر قبورهم ..
طبعا مهما تحدثت لن أوفي القصيدة حقها لروعتها ..
أتمنى لكم قراءة ممتعة ..
ضوء الأصيل يغيم كالحلم الكئيب على القبورْ
واه كما ابتسم اليتامى أو كما بهتت شموعْ
في غيهب الذكرى يهيم ظلهن على دموعْ
والمدرج النائي تهب عليه أسراب الطيورْ
كالعاصفات السود كالأشباح في بيت قديمْ
برزت لترعب ساكنيه ..
من غرفة ظلماء فيه ..
وتثاءب الطلل البعيد يحدّقُ الليلَ البهيمْ ..
من بابه الأعمى ومن شباكه الخرب البليدْ
والجو يملؤه النعيبْ ..
فترددُ الصحراءُ في يأسٍ وإعوال رتيبْ
أصداءه المتلاشياتْ ..
والريح تذروهن في سأم على التل البعيد
وكأن بعض الساحرات
مدت أصابعها العجاف الشاحنات الى السماء
تومي الى سرب من الغربان تلويه الرياح
في آخر الأفق المضاء
حتى تعال ثم فاض على مراقيه الفساح
فكأن ديدان القبور ..
فارت لتلتهم الفضاء وتشرب الضوء الغريق
وكأنما أزف النشور
فاستيقظ الموتى عطاشى يلهثون على الطريق
وتدافع السرب الثقيل
يطفو ويرسب في الأصيل
لجبا يرنق بالظلام على القبور الباليات ..
وظلاله السوداء تزحف كالليالي الموحشات
بين الجنادل والصخور
وعلى القبور
وتنفس الضوء الضئيل
بعد اختناق بالطيوف الراعبات وبالجثام
ثم ارتخت تلك الظلال السود وانجاب الظلام
فانجاب عن ظل طويل
يلقيه حفار القبور ..
كفان جامدتان أبرد من جباه الخاملين
وكأن حولهما هواء كان في بعض اللحود
في مقلة جوفاء خاوية يهوم في ركود
كفان قاسيتان جائعتان كالذئب السجين
وفم كشق في جدار ..
مستوحد بين الصخور الصمّ من أنقاض دارْ
عند المساء ومقلتان تحدقان بلا بريق
وبلا دموع في الفضاء
هو ذا المساء ..
يدنو وأشباح النجوم تكاد تبدو والطريق
خال فلا نعش يلوح على مداه ولا عويل
إلا النعيب ..
وتنهد الريح الطويل ..
وعلام تنعب هذه الغربان والكون الرحيب
باق يدور يعج بالأحياء مرضى جائعين
بيض الشعور كأعظم الأموات لكن خالدين
لا يهلكون علام تنعب إن عزرائيل مات
وغدا أموت غدا أموت ..
وهز حفار القبور ..
يمناه في وجه السماء وصاح رب أما تثور ..؟؟
فتبيد نسل العار تحرق بالرجوم المهلكات
أحفاد عاد باعة الدم والخطايا والدموع
يا رب ما دام الفناء هو غاية الأحياء
فأمرْ يهلكوا هذا المساء ..
سأموت من ظمأ وجوع
إن لم يمت هذا المساء إلى غد بعض الأنام ..
فابعث به قبل الظلام ..
يا رب أسبوع طويل مرّ كالعام الطويل
والقبر خاو يفغر الفمّ في انتظار في انتظار ..
ما زلت أحفره ويطمره الغبار
تتثاءب الظلماء فيه ويرشح القاع البليل ..
مما تعصر أعين الموتى وتنضحه الجلود
تلك الجلود الشاحبات وذلك اللحم النثير
حتى الشفاه يمص من دمها الثرى حتى النهود
تذوي ويقطر في ارتخاء من مراضعها المغير
واها لهاتيك النواهد والمآقي والشفاه
واها لأجساد الحسان أيأكل الليل الرهيب
والدود منها ما تمناه الهوى .. واخيبتاه
كم جثة بيضاء لم تفتضها شفتا حبيب
هل كان عدلا أن أحن إلى السراب و لا أنال
إلا الحنين وألف أنثى تحت أقدامي تنام
أفكلما اتقدت رغاب في الجوانح شح مال .. ؟؟
ما زلت أسمع بالحروب فأين أين هي الحروب .. ؟؟
أين السنابك و القذائف و الضحايا في الدروب ..؟؟
لأظل أدفنها فلا تسع الصحارى
فأدس في قمم التلال عظامهن و في الكهوف ..
فكأن قعقعة المنازل في اللظى نقرُ الدفوف ..
أو وقع أقدام العذارى ..
يرقصن حولي لاعبات بالصنوج و بالسيوف
نُبّئتُ عن حرب تدور لعل عزرائيل فيها
في الليل يكدح والنهار فلن يمر على قرانا
أو بالمدينة وهي توشك أن تضيق بساكنيها
نُبّئتُ أن القاصفات هناك ما تركت مكانا
إلا وحلّ به الدمار فأي سوق للقبور .. ؟؟
حتى كأن الأرض من ذهب يضاحك حافريها
حتى كأن معاصر الدم دافقات بالخمور
أوّاه لو أني هناك أسُدُّ باللحم النثير
جوعَ القبور وجوعَ نفسي في بلاد ليس فيها
إلا أرامل أو عذارى غاب عنهن الرجال
وافتضهن الفاتحون إلى الذماء كما يقال
مازلت أسمع بالحروب فما لأعين موقديها
لا تستقر على قرانا ليت عيني تلتقيها
وتخضهن إلى القرار وكالنيازك والرعود
تهوي بهن على النخيل على الرجال على المهود
حتى تحدق أعين الموتى كآلاف اللآلي
من كل شبر في المدينه ثم تنظم كالعقود
في هذه الأرض الخراب فيا لأعينها ويا لي
رباه إني أقشعرّ أكاد أسمع في الخيال
أغنية تصف العيون ..
تنثال من مقهى فأنصت في الزحام و ينصتون
يا رب أسبوع يمر ولست أسمع من غناء
إلا النعيب ...
و تنهد الريح الرتيب ..
وا خيبتاه ألن أعيش بغير موت الآخرين .. ؟؟
والطيبات من الرغيف إلى النساء إلى البنين ..
هي منة الموتى علي فكيف أشفق بالأنام
فلتمطرنّهم القذائف بالحديد وبالضرام
و بما تشاء من انتقام ..
من حميات أو جذام ..
نذر عليّ لئن تشب لأزرعن من الورود ..
ألفا تروّى بالدماء و سوف أرصف بالنقود
هذا المزار وسوف أركض في الهجير بلا حذاء
وأعد أحذية الجنود
وأخط في وحل الرصيف وقد تلطخ بالدماء
أعدادهن لأستبيح عدادهن من النهود
و سأدفن الطفل الرمي وأطرح الأم الحزينة
بين الصخور على ثراه
و لسوف أغرز بين ثدييها أصابعي اللعينة
و يكاد يحنقها لهاثي وهي تسمع في لظاه
قلبي ووسوسة النقود .. نقودها وا خجلتاه
أنا لست أحقر من سواي و إن قسوت فلي شفيع
أني كوحش في الفلاء ..
لم أقرأ الكتب الضخام و شافعي ظمأ و جوع
أو ما ترى المتحضرين .. ؟؟
المزدهين من الحديد بما يطير و ما يذيع
مهما ادنأت فلن أسفّ كما أسفوا لي شفيع
أني نويت ويفعلون وإن من يئد البنين
والأمهات ويستحل دم الشيوخ العاجزين
لأحط من زان انتهاك الغزاة وما استباحوا
والقاتلون هم الجناه وليس حفار القبور
وهم الذين يلونون لي البغايا بالخمور
وهم المجاعة والحرائق والمذابح والنواح
وهم الذين سيتركون أبي وعمته الضريره
بين الخرائب ينبشان ركامهن عن العظام
أو يفحصان عن الجذور و يلهثان من الأورام
والصخر كالمقل الضريرة ..
و سيوثقون بشعر أختي قبضتي وكالظلام
وكخضة الحمى تسمرها على دمها صدور
تعلو وتهبط باللهاث كأنهن رحى تدور
يا مجرمون إلى الوراء فسوف تنتفض القبور
رباه عفوك إن قابيل المكبل بالحديد
في نفسي الظلماء هبّ وقرّ يعصره الملال
فالليل جاء و ما أزال ...
مستوحدا أرعى القبور وأنفض الدرب البعيد
وكأن يا بشرى كأن هناك في أقصى الجنوب
خطا كأذيال الظلام و لمعة كدم الغروب
لكأنه ضيف جديد ...
و بدا الجناز و راح يشهق و هو يدنو في ارتخاء
الأوجه المتحجرات يضيئها الشفق الكئيب
و الغمغمات الخافتات من انفعال أو رياء
و النعش يحجبه غطاء ..
ألوانه المترنحات كأنما اعتصر المغيب
فيها قواه و ذاب فيها كوكب واهي الضياء
حتى إذا انهال التراب و صفح القبر الجديد
وتراعش الألق الضئيل على الظهور المتعبات
حتى اضمحل وغيبتها ظلمة الأفق البعيد
كانت مصابيح السماء تذر ضوءا كالضباب
بين القبور الموحشات ...
و على الخرائب و الرمال وكان حفار القبور ..
متعثر الخطوات يأخذ دربه تحت الظلام
يرعى مصابيح المدينه و هي تخفق في اكتئاب
ويظل يحلم بالنساء العاريات وبالخمور ..
و تحسست يده النقود و هيأ الفم لابتسام
حتى تلاشى في الظلام
النور ينضح من نوافذ حانة عبر الطريق
و تكاد رائحة الخمور ..
تلقى على الضوء المشبع بالدخان و بالفتور
ظلا كألوان حيارى واهيات من حريق
ناءت وهم في الدجى الضافي على وجه حزين
و تلوح أشباح عجاف ..
خلف الزجاج تهيم في الضوء السرابي الغريق
و يشد حفار القبور على الزجاجة باليمين
و كمن يحاذر أو يخاف ..
يرنو إلى الدرب المنقط بالمصابيح الضئال
وتحركت شفتاه في بطء و غمغم في انخذال
أظننت أنك سوف تقتحم المدينه كالغزاهة ..؟؟
كالفاتحين وتشتريها بالذي ملكت يداك ..؟؟
بأقل من ثمن الطلاء القرمزي على شفاه ..؟؟
أو في أظافر لاحقتها ذات يوم مقلتاك ..؟؟
لولا التماعات الكواكب وانعكاس من ضياء
تلقيه نافذة .. ووقع خطى تهاوى في عياء
يصدى له الليل العميق وحارس تعب يعود
وسنان يحلم بالفراش وزوجه تذكي السراج
و تؤجج التنور صامته وأخيلة اللهيب
تضفي عليها ما تشاء من اكتئاب وابتهاج
ثم اضمحل الحارس المكدود والنغم الرتيب
وقع الخطى المتلاشيات كأنه الهمس المريب
ما زال يخفق من بعيد
وتململت قدمان وارتفعت يد بعد انتظار
و هوت على الباب العتيق فأرسل الخشب البليد
صوتا كإيقاع المعاول حين إدبار النهار
بين القبور الموحشات وأطبق الصمت الثقيل
وأطل من إحدى النوافذ وهي تفتح في ارتياب
وجه حزين ثم غاب ..
و تحرك الباب المضعضع وهو يجهش بالعويل
و تقول أنثى في اكتئاب ..
ضيف جديد ثم تفرك مقلتيها في فتور
و يظل يزحف كالكسوف يحجب الألق الضئيل
عن وجهها ظل يقيدها بحفار القبور
في زهوة الشفق الملون حيث يحترق النهار
في عودة الرعيان أشباحا يظللها الغبار
في ساعة الشوق الكئيب إلى شواطئ كالضباب
و إلى أكف مخلصات
و إلى أغان مبهمات هائمات في شعاب ..
أنأى من الأصداء تغشاها نجوم ساهمات
في ساعة الشفق الملون كان إنسان يثور
بين الجنادل و القبور
نفس معذبة تثور
بين الجنادل و القبور
أ أظل أحلم بالنعوش وأنفض الدرب البعيد ..؟؟
بالنظرة الشزراء واليأس المظلل بالرجاء
يطفو ويرسب والسماء كأنها صنم بليد
لا مأمل في مقلتيه و لا شواظ ولا رثاء
لو أنها انفجرت تقهقه بالرعود القاصفات
لو أنها انكمشت وصاحت كالذئاب العاويات
فات الأوان فخط لحدك واثو فيه إلى النشور
لو أنها انطبقت علي كأنها فم أفعوان
لو أنها اعتصرت قواي
و مات ظل الأرجوان
في آخر الأفق البعيد ولألأت قطرات نور
مما تبعثره المدينة وهي تبسم في فتور
و كأنما رضعت مصابيح المدينة مقلتاه
فسرت لهيبا في دماه وألغمتها بالرغاب
و كأنهن على المدى المقرور آلاف الشفاه
تدعوه ظمأى لاهثات مثل أحداق الذئاب
ما زلت تحترقين من فرح واحتراق وانتظار
أنا انتهينا ..
يا سماء و يا قبور أما أراها ..
لا بد من هذا وصوب مقلتيه إلى السماء
حنقا يزمجر .. ثم أطرق وهو يحلم باللقاء
باب تفتح في الظلام وضحكة وشذى ثقيل
ويدان تجتذبان أغطية السرير وترخيان
إحدى الستائر
ثم تنطفئان في الضوء الضئيل
وتغيم أخيلة وتجلى ثم تبرز حلمتان
ويطل وجه شاحب القسمات مختلج الشفاه
و تغيم أخيلة و تحلى ثم تفتح مقلتاه
فيرى القبور
و يرى المصابيح البعيدة كالمجامر في اتقاد
و يرى الطريق إلى القبور ..
يكتظ بالأشباح زاحفة إليه على اتئاد
فيصيح من فرح سألقاها فإن الطريق
نعشا وإن حف النساء به وأملق حاملوه
إني سألقاها و ينهض وهو يرفع باليمين
فانوسة الصدىء العتيق
يلقي سناه على الوجوه
وعلى الدثار القرمزي وفي عيون القادمين
لو أنه اخترق الدثار بمقلتيه وبالضياء
لو حدّث التابوت عمن فيه أو رفعت يداها
أو هبة لزعزع النكباء حاشية الغطاء
تحت النجوم الساهمات
لكاد ينكر من رآها
و تظل أنوار المدينة و هي تلمع من بعيد
و يظل حفار القبور
ينأى عن القبر الجديد
معتثر الخطوات يحلم باللقاء و بالخمور ...
تم حذف بعض الأبيات من القصيدة ..
: لست واثقا من صحة اللفظ هنا ( لجبا ، يرنق ) ولا أملك معجما لغويا للتأكد منه ..
بدر شاكر السياب ..
سأضعها كاملة لمن يجد وقتا كافيا لقراءتها ...
القصيدة باختصار تحكي قصة رجل مهنته حفر القبور ، فتمر عليه أيام طويلة
لا يحفر قبرا ، فيوشك على الهلاك ،، فيتمنى ويدعو الله عز وجل بأن تقوم حرب مدمرة أو أن يفتك المرض
بالناس فيموتون لكي يعيش هو من حفر قبورهم ..
طبعا مهما تحدثت لن أوفي القصيدة حقها لروعتها ..
أتمنى لكم قراءة ممتعة ..
يقول :
ضوء الأصيل يغيم كالحلم الكئيب على القبورْ
واه كما ابتسم اليتامى أو كما بهتت شموعْ
في غيهب الذكرى يهيم ظلهن على دموعْ
والمدرج النائي تهب عليه أسراب الطيورْ
كالعاصفات السود كالأشباح في بيت قديمْ
برزت لترعب ساكنيه ..
من غرفة ظلماء فيه ..
وتثاءب الطلل البعيد يحدّقُ الليلَ البهيمْ ..
من بابه الأعمى ومن شباكه الخرب البليدْ
والجو يملؤه النعيبْ ..
فترددُ الصحراءُ في يأسٍ وإعوال رتيبْ
أصداءه المتلاشياتْ ..
والريح تذروهن في سأم على التل البعيد
وكأن بعض الساحرات
مدت أصابعها العجاف الشاحنات الى السماء
تومي الى سرب من الغربان تلويه الرياح
في آخر الأفق المضاء
حتى تعال ثم فاض على مراقيه الفساح
فكأن ديدان القبور ..
فارت لتلتهم الفضاء وتشرب الضوء الغريق
وكأنما أزف النشور
فاستيقظ الموتى عطاشى يلهثون على الطريق
وتدافع السرب الثقيل
يطفو ويرسب في الأصيل
لجبا يرنق بالظلام على القبور الباليات ..
وظلاله السوداء تزحف كالليالي الموحشات
بين الجنادل والصخور
وعلى القبور
وتنفس الضوء الضئيل
بعد اختناق بالطيوف الراعبات وبالجثام
ثم ارتخت تلك الظلال السود وانجاب الظلام
فانجاب عن ظل طويل
يلقيه حفار القبور ..
كفان جامدتان أبرد من جباه الخاملين
وكأن حولهما هواء كان في بعض اللحود
في مقلة جوفاء خاوية يهوم في ركود
كفان قاسيتان جائعتان كالذئب السجين
وفم كشق في جدار ..
مستوحد بين الصخور الصمّ من أنقاض دارْ
عند المساء ومقلتان تحدقان بلا بريق
وبلا دموع في الفضاء
هو ذا المساء ..
يدنو وأشباح النجوم تكاد تبدو والطريق
خال فلا نعش يلوح على مداه ولا عويل
إلا النعيب ..
وتنهد الريح الطويل ..
وعلام تنعب هذه الغربان والكون الرحيب
باق يدور يعج بالأحياء مرضى جائعين
بيض الشعور كأعظم الأموات لكن خالدين
لا يهلكون علام تنعب إن عزرائيل مات
وغدا أموت غدا أموت ..
وهز حفار القبور ..
يمناه في وجه السماء وصاح رب أما تثور ..؟؟
فتبيد نسل العار تحرق بالرجوم المهلكات
أحفاد عاد باعة الدم والخطايا والدموع
يا رب ما دام الفناء هو غاية الأحياء
فأمرْ يهلكوا هذا المساء ..
سأموت من ظمأ وجوع
إن لم يمت هذا المساء إلى غد بعض الأنام ..
فابعث به قبل الظلام ..
يا رب أسبوع طويل مرّ كالعام الطويل
والقبر خاو يفغر الفمّ في انتظار في انتظار ..
ما زلت أحفره ويطمره الغبار
تتثاءب الظلماء فيه ويرشح القاع البليل ..
مما تعصر أعين الموتى وتنضحه الجلود
تلك الجلود الشاحبات وذلك اللحم النثير
حتى الشفاه يمص من دمها الثرى حتى النهود
تذوي ويقطر في ارتخاء من مراضعها المغير
واها لهاتيك النواهد والمآقي والشفاه
واها لأجساد الحسان أيأكل الليل الرهيب
والدود منها ما تمناه الهوى .. واخيبتاه
كم جثة بيضاء لم تفتضها شفتا حبيب
هل كان عدلا أن أحن إلى السراب و لا أنال
إلا الحنين وألف أنثى تحت أقدامي تنام
أفكلما اتقدت رغاب في الجوانح شح مال .. ؟؟
ما زلت أسمع بالحروب فأين أين هي الحروب .. ؟؟
أين السنابك و القذائف و الضحايا في الدروب ..؟؟
لأظل أدفنها فلا تسع الصحارى
فأدس في قمم التلال عظامهن و في الكهوف ..
فكأن قعقعة المنازل في اللظى نقرُ الدفوف ..
أو وقع أقدام العذارى ..
يرقصن حولي لاعبات بالصنوج و بالسيوف
نُبّئتُ عن حرب تدور لعل عزرائيل فيها
في الليل يكدح والنهار فلن يمر على قرانا
أو بالمدينة وهي توشك أن تضيق بساكنيها
نُبّئتُ أن القاصفات هناك ما تركت مكانا
إلا وحلّ به الدمار فأي سوق للقبور .. ؟؟
حتى كأن الأرض من ذهب يضاحك حافريها
حتى كأن معاصر الدم دافقات بالخمور
أوّاه لو أني هناك أسُدُّ باللحم النثير
جوعَ القبور وجوعَ نفسي في بلاد ليس فيها
إلا أرامل أو عذارى غاب عنهن الرجال
وافتضهن الفاتحون إلى الذماء كما يقال
مازلت أسمع بالحروب فما لأعين موقديها
لا تستقر على قرانا ليت عيني تلتقيها
وتخضهن إلى القرار وكالنيازك والرعود
تهوي بهن على النخيل على الرجال على المهود
حتى تحدق أعين الموتى كآلاف اللآلي
من كل شبر في المدينه ثم تنظم كالعقود
في هذه الأرض الخراب فيا لأعينها ويا لي
رباه إني أقشعرّ أكاد أسمع في الخيال
أغنية تصف العيون ..
تنثال من مقهى فأنصت في الزحام و ينصتون
يا رب أسبوع يمر ولست أسمع من غناء
إلا النعيب ...
و تنهد الريح الرتيب ..
وا خيبتاه ألن أعيش بغير موت الآخرين .. ؟؟
والطيبات من الرغيف إلى النساء إلى البنين ..
هي منة الموتى علي فكيف أشفق بالأنام
فلتمطرنّهم القذائف بالحديد وبالضرام
و بما تشاء من انتقام ..
من حميات أو جذام ..
نذر عليّ لئن تشب لأزرعن من الورود ..
ألفا تروّى بالدماء و سوف أرصف بالنقود
هذا المزار وسوف أركض في الهجير بلا حذاء
وأعد أحذية الجنود
وأخط في وحل الرصيف وقد تلطخ بالدماء
أعدادهن لأستبيح عدادهن من النهود
و سأدفن الطفل الرمي وأطرح الأم الحزينة
بين الصخور على ثراه
و لسوف أغرز بين ثدييها أصابعي اللعينة
و يكاد يحنقها لهاثي وهي تسمع في لظاه
قلبي ووسوسة النقود .. نقودها وا خجلتاه
أنا لست أحقر من سواي و إن قسوت فلي شفيع
أني كوحش في الفلاء ..
لم أقرأ الكتب الضخام و شافعي ظمأ و جوع
أو ما ترى المتحضرين .. ؟؟
المزدهين من الحديد بما يطير و ما يذيع
مهما ادنأت فلن أسفّ كما أسفوا لي شفيع
أني نويت ويفعلون وإن من يئد البنين
والأمهات ويستحل دم الشيوخ العاجزين
لأحط من زان انتهاك الغزاة وما استباحوا
والقاتلون هم الجناه وليس حفار القبور
وهم الذين يلونون لي البغايا بالخمور
وهم المجاعة والحرائق والمذابح والنواح
وهم الذين سيتركون أبي وعمته الضريره
بين الخرائب ينبشان ركامهن عن العظام
أو يفحصان عن الجذور و يلهثان من الأورام
والصخر كالمقل الضريرة ..
و سيوثقون بشعر أختي قبضتي وكالظلام
وكخضة الحمى تسمرها على دمها صدور
تعلو وتهبط باللهاث كأنهن رحى تدور
يا مجرمون إلى الوراء فسوف تنتفض القبور
رباه عفوك إن قابيل المكبل بالحديد
في نفسي الظلماء هبّ وقرّ يعصره الملال
فالليل جاء و ما أزال ...
مستوحدا أرعى القبور وأنفض الدرب البعيد
وكأن يا بشرى كأن هناك في أقصى الجنوب
خطا كأذيال الظلام و لمعة كدم الغروب
لكأنه ضيف جديد ...
و بدا الجناز و راح يشهق و هو يدنو في ارتخاء
الأوجه المتحجرات يضيئها الشفق الكئيب
و الغمغمات الخافتات من انفعال أو رياء
و النعش يحجبه غطاء ..
ألوانه المترنحات كأنما اعتصر المغيب
فيها قواه و ذاب فيها كوكب واهي الضياء
حتى إذا انهال التراب و صفح القبر الجديد
وتراعش الألق الضئيل على الظهور المتعبات
حتى اضمحل وغيبتها ظلمة الأفق البعيد
كانت مصابيح السماء تذر ضوءا كالضباب
بين القبور الموحشات ...
و على الخرائب و الرمال وكان حفار القبور ..
متعثر الخطوات يأخذ دربه تحت الظلام
يرعى مصابيح المدينه و هي تخفق في اكتئاب
ويظل يحلم بالنساء العاريات وبالخمور ..
و تحسست يده النقود و هيأ الفم لابتسام
حتى تلاشى في الظلام
النور ينضح من نوافذ حانة عبر الطريق
و تكاد رائحة الخمور ..
تلقى على الضوء المشبع بالدخان و بالفتور
ظلا كألوان حيارى واهيات من حريق
ناءت وهم في الدجى الضافي على وجه حزين
و تلوح أشباح عجاف ..
خلف الزجاج تهيم في الضوء السرابي الغريق
و يشد حفار القبور على الزجاجة باليمين
و كمن يحاذر أو يخاف ..
يرنو إلى الدرب المنقط بالمصابيح الضئال
وتحركت شفتاه في بطء و غمغم في انخذال
أظننت أنك سوف تقتحم المدينه كالغزاهة ..؟؟
كالفاتحين وتشتريها بالذي ملكت يداك ..؟؟
بأقل من ثمن الطلاء القرمزي على شفاه ..؟؟
أو في أظافر لاحقتها ذات يوم مقلتاك ..؟؟
لولا التماعات الكواكب وانعكاس من ضياء
تلقيه نافذة .. ووقع خطى تهاوى في عياء
يصدى له الليل العميق وحارس تعب يعود
وسنان يحلم بالفراش وزوجه تذكي السراج
و تؤجج التنور صامته وأخيلة اللهيب
تضفي عليها ما تشاء من اكتئاب وابتهاج
ثم اضمحل الحارس المكدود والنغم الرتيب
وقع الخطى المتلاشيات كأنه الهمس المريب
ما زال يخفق من بعيد
وتململت قدمان وارتفعت يد بعد انتظار
و هوت على الباب العتيق فأرسل الخشب البليد
صوتا كإيقاع المعاول حين إدبار النهار
بين القبور الموحشات وأطبق الصمت الثقيل
وأطل من إحدى النوافذ وهي تفتح في ارتياب
وجه حزين ثم غاب ..
و تحرك الباب المضعضع وهو يجهش بالعويل
و تقول أنثى في اكتئاب ..
ضيف جديد ثم تفرك مقلتيها في فتور
و يظل يزحف كالكسوف يحجب الألق الضئيل
عن وجهها ظل يقيدها بحفار القبور
في زهوة الشفق الملون حيث يحترق النهار
في عودة الرعيان أشباحا يظللها الغبار
في ساعة الشوق الكئيب إلى شواطئ كالضباب
و إلى أكف مخلصات
و إلى أغان مبهمات هائمات في شعاب ..
أنأى من الأصداء تغشاها نجوم ساهمات
في ساعة الشفق الملون كان إنسان يثور
بين الجنادل و القبور
نفس معذبة تثور
بين الجنادل و القبور
أ أظل أحلم بالنعوش وأنفض الدرب البعيد ..؟؟
بالنظرة الشزراء واليأس المظلل بالرجاء
يطفو ويرسب والسماء كأنها صنم بليد
لا مأمل في مقلتيه و لا شواظ ولا رثاء
لو أنها انفجرت تقهقه بالرعود القاصفات
لو أنها انكمشت وصاحت كالذئاب العاويات
فات الأوان فخط لحدك واثو فيه إلى النشور
لو أنها انطبقت علي كأنها فم أفعوان
لو أنها اعتصرت قواي
و مات ظل الأرجوان
في آخر الأفق البعيد ولألأت قطرات نور
مما تبعثره المدينة وهي تبسم في فتور
و كأنما رضعت مصابيح المدينة مقلتاه
فسرت لهيبا في دماه وألغمتها بالرغاب
و كأنهن على المدى المقرور آلاف الشفاه
تدعوه ظمأى لاهثات مثل أحداق الذئاب
ما زلت تحترقين من فرح واحتراق وانتظار
أنا انتهينا ..
يا سماء و يا قبور أما أراها ..
لا بد من هذا وصوب مقلتيه إلى السماء
حنقا يزمجر .. ثم أطرق وهو يحلم باللقاء
باب تفتح في الظلام وضحكة وشذى ثقيل
ويدان تجتذبان أغطية السرير وترخيان
إحدى الستائر
ثم تنطفئان في الضوء الضئيل
وتغيم أخيلة وتجلى ثم تبرز حلمتان
ويطل وجه شاحب القسمات مختلج الشفاه
و تغيم أخيلة و تحلى ثم تفتح مقلتاه
فيرى القبور
و يرى المصابيح البعيدة كالمجامر في اتقاد
و يرى الطريق إلى القبور ..
يكتظ بالأشباح زاحفة إليه على اتئاد
فيصيح من فرح سألقاها فإن الطريق
نعشا وإن حف النساء به وأملق حاملوه
إني سألقاها و ينهض وهو يرفع باليمين
فانوسة الصدىء العتيق
يلقي سناه على الوجوه
وعلى الدثار القرمزي وفي عيون القادمين
لو أنه اخترق الدثار بمقلتيه وبالضياء
لو حدّث التابوت عمن فيه أو رفعت يداها
أو هبة لزعزع النكباء حاشية الغطاء
تحت النجوم الساهمات
لكاد ينكر من رآها
و تظل أنوار المدينة و هي تلمع من بعيد
و يظل حفار القبور
ينأى عن القبر الجديد
معتثر الخطوات يحلم باللقاء و بالخمور ...
تم حذف بعض الأبيات من القصيدة ..
: لست واثقا من صحة اللفظ هنا ( لجبا ، يرنق ) ولا أملك معجما لغويا للتأكد منه ..
بدر شاكر السياب ..