هكذا حدثنا غاغارين عن غاغارين هذه النصوص أخذتها من كتاب " الطريق إلى الفضاء " ، الذي ألفه يوري غاغارين عن حياته و عن تحليقه الفضائي في نيسان 1961 . هذه النصوص أخذتها حرفياً كما كتبها غاغارين نفسه ، مع تأكيدي أن هذه النصوص متناثرة في صفحات الكتاب الكثيرة . و أعتقد أنها تفي بالغرض منها ، و هو إعطاء صورة عن الأجواء التي تربى فيها يوري غاغارين ، بحيث نشأ محباً للعمل و الإخلاص و التفاني و حب الوطن و البطولة و العقائدية ... و قبل كل شيء رباطة الجأش التي لا تعرف الحدود ، و التي تجلت في تدريباته و رحلته الفضائية التي شابتها المخاطر الكبيرة . كما أنني أخذت العديد من النصوص التي وردت في كتاب والدته " ذكراه في القلب " و زرعتها بين نصوص غاغارين حيثما كان ذلك ضرورياً ، لإكمال الصورة المبتغاة .
لنقرأ معاً ما يقوله غاغارين عن غاغارين :
ولدت في عائلة بسيطة للغاية ، لا تختلف في شيء عن ملايين عائلات العمّال في وطننا الإشتراكي . إسم والدي هو أليكسي إيفانوفيتش غاغارين و والدتي هي آنا تيموفيفنا .
كنا أربعة أشقاء : أخي الأكبر يدعى فالنتين و و لد في عام 1925 ثم ولدت أختي زويا . و أما أنا فكان ميلادي يوم 9 آذار 1934 ، و أخي الأصغر هو بوريس ، الذي ولد في حزيران 1936 .
والداي كانا يعملان في كولخوز القرية " كلوشينو " : والدي كان يعمل نجّاراً و أمي تحلب الماشية . و لإخلاصها و اجتهادها في العمل أختيرت قائدة في مزرعة الحليب التابعة للكولخوز .
و والدي هو إبن فلاّح من مدينة سمولنسك ، ذهب فقط سنتين إلى المدرسة ، و لكنه كان محباً للمطالعة و فضولياً ، فثقف نفسه عن طريق المطالعة و القراءة . و في قريتنا كان يعتبر العارف بكل شيء . كان باستطاعته القيام بأي عمل في جميع مناحي الإقتصاد الفلاّحي ، و أفضل عمل لديه هو النجارة . في عائلتنا كانت سلطة الأب غير قابلة للنقاش . كان شديداً و لكنه كان عادلاً . كان يعلمنا مبادىء النظام و احترام الوالدين و حب العمل . لم يكن يدللنا و لكنه كان يستمع جيداً إلى رغباتنا . كانت كل حياته مرتبطة بالكولوخوز الذي كان يعتبره بيته الثاني . كان معاقاً و مصاباً بساقه ، و لهذا لم يشترك في الحرب .
ذات يوم أحد عاد والدي مهرولاً إلى البيت ، قادماً من سوفييت القرية . لم نره في حياتنا هكذا مهتاجاً و مرتبكاً . لم يستطع أن يقول سوى كلمة واحدة : " الحرب " .
و بدأت الحرب العالمية الثانية و دخل الألمان بلدنا . كل شيء بدا آنذاك و كأنه فقد رونقه . صمتت الأغاني في القرية ، و حتى نحن الأطفال لم نعد نلعب .
جاء شهر أيلول و ذهبت مع أقراني إلى المدرسة . لقد كان ذلك اليوم الكبير و الاحتفالي الذي كنت أحن له . و ما كدنا نبدأ بتعلم الأحرف الأولى حتى أخذنا نسمع أن الألمان الفاشيست أصبحوا قريبين لنا . في ذلك اليوم مرّت طائرتان سوفياتيتان عليهما نجوم حمراء فوق ساحات قريتنا . إنهما أولى الطائرات التي أراها في حياتي . و سقطت طائرة منهما بسبب قذيفة ألمانية . و ساقها قائد الطائرة بآخر قواها إلى مستنقع قريب و اصطدمت بالأرض و تطايرت شظاياها ، بينما إستطاع قائدها الشاب القفز سالماً إلى الأرض و بدون مظلة . و سقطت الطائرة الأخرى على المرج المجاور للمستنقع . و أسرعنا بالطبع نحن الصغار إلى هنالك . كل منا أراد أن يلمس قائد الطائرة . و صعدنا درجات سلّم الطائرة . و لقد تنفسنا بنزين الطائرة غير المعروف لنا . و استطعنا أن نعدّ آثار الطلقات التي أصيبت بها الطائرة . كان فريق الطائرة مهتاجاً و غاضباً ، و أخذوا يحركون أيديهم قائلين : سيدفع الألمان غالياً مقابل هذه الطائرة . فتحوا أزرّة جاكيتاتهم الجلدية و كانت النياشين تلمع فوق قمصان بزاتهم العسكرية . لقد كانت أولى النياشين التي أراها في حياتي . و أدركنا نحن الصغار ثمن الحصول على مثل هذه النياشين .
وتقول والدة غاغارين في كتابها " ذكراه في القلب " : حدثني يورا بكل دقة عن تفاصيل الحادث وكان يكرر كلمات الطيار : ما إسم قريتكم ؟ أيها الفاشيون الأوغاد ، سوف تدفعون الثمن غالياً . يجب أن تعلموا هذا أيها الأطفال . و هؤلاء الطيارون هم فعلاً أبطال و قد حاربوا في إسبانيا . و قال لي يورا : إن الطيّار أعطاه الحقيبة الجلدية ليحملها . و قال يورا لي : ماما ، سأكبر و أصبح طيّاراً . وبعد الرحلة الفضائية جاءت رسالة من مدينة غوركي . كانت الرسالة من الطيار الحربي السابق لارتسييف وأشار فيها إلى أنه يتذكر جيداً المعارك الجوية التي دارت في شهر أيلول 1941 ويتذكر هبوطه الإضطراري في قرية قرب سمولنسك ويتذكر مجموعة الصبيان الذين وقفوا ينظرون إلى الطائرات والذين أحضروا لنا الطعام . وقال في رسالته : أتذكر الطفل الذي كان يقول لي سأصبح طياراً يا عمّ . وقال أيضاً ، بأنه لم يكن يتوقع في تلك الظروف الصعبة أن يلتقى في هذه القرية مع الإنسان الذي سيصبح أول رائد فضاء في العالم .( و يستمر غاغارين قائلاً ) ... .... و تتابعت الأحداث بسرعة . طوابير السيارات سارت بالجرحى عبر قريتنا . و أخذ الجميع يتحدث عن إخلاء السكان . لم يكن هناك وقت للتفكير . غادر عمي و معه حيوانات الكولخوز . و بدأ والداي التحضير للمغادرة و لكن الوقت لم يسعفنا لذلك . سمعنا هدير المدافع و تلوّنت السماء بلون النيران و فجأة و بدون توقع إندفع الألمان على الدراجات الهوائية داخل القرية و بدأت الآن الفوضى الضارية . فتش الألمان كل بيت بحثاً عن الأنصار و أخذوا من كل بيت كل شيء ذا قيمة . ثم طردونا من بيتنا . فاضطررنا لحفر حفرة في الأرض و عملنا فيها كوخنا بعد نضح مياه الأمطار منها . و عشنا فيه حتى إنسحاب الألمان من قريتنا في شهر آذار 1943 م . و أسوأ ما عشناه كان في الليل ، حينما كنا نسمع هدير الطائرات الألمانية المتجهة إلى موسكو . كان وجه والدي ووجه والدتي مليئين بالأسى و الهموم ، على مصير العائلة و مصير الكولخوز و أيضاً على مصير شعبنا كله . لم يكن والدي ينام ليلاً . كان يصغي فيما إذا كانت هناك عيارات سوفياتية تسمع أو أن فرقنا العسكرية قد هوجمت . و بقلق كان يتحدث مع والدتي و بصوت خفيض حول رجال العصابات ( الأنصار) . في ذلك الوقت لم يكن لدينا راديو أو صحف أو رسائل . لم نكن نعرف ما يحدث في المناطق المجاورة .
كان يعيش في بيتنا ألماني إسمه ألبرت . و كان يعمل في شحن بطاريات السيارات . و لم يكن يطيق رؤية الأطفال . و ذات يوم إقترب أخي الأصغر بحب الفضول إلى ورشته فأمسك بأخي و لف عنقه بالشال و علقه على شجرة تفاح . و اندفعت أمي باتجاه أخي و لكن الألماني منعها من الاقتراب . و أردت أنا أن أصرخ و أنادي الناس من القرية فلم أستطع . لقد توقف تنفسي كما لو أن الشنق وصل لي و ليس لأخي . و لحسن الحظ نادى أحد الرؤساء هذا الألماني فجأة ، و هكذا إستطعنا ، أمي و أنا ، أن نحرّر أخي و حملناه إلى كوخنا الأرضي و بعد ساعات إستعاد وعيه .
و نحن الصغار كنا نقلد الكبار و نعمل أضراراً للفاشيست . كنا نرمي بالمسامير و شظايا الزجاج على الطريق و نحشو الخرق و القاذورات في أكسوست سيارة الألماني . كان يكرهني ، فأهرب للمبيت عند الجيران .
( وتقول والدة غاغارين ... .... عرف الألمان أن أليكسي يعمل طحاناً وطلبوا منه ذات مرّة طحن كمية من الطحين . عطل أليكسي المطحنة فاستدعوه في اليوم التالي وجلدوه . في اليوم التالي أحرق أليكسي المطحنة . و تقول أيضاً : كنا نجلس في الحفرة و نعد القنابل التي تتساقط على رؤوس الفاشيين . و اعتبرنا هذه القنابل تحية للوطن .... ... كان أليكسي ينام ساعات قليلة في الليل و يخرج للمناوبة و مراقبة العدو . و ذات مرّة جاء و معه ثلاثة جنود سوفيات ، و أخبرهم عن تحركات الفاشيين بكل دقة ، و ثبت الجنود هذه المعلومات على الخرائط ) .( و يستمر غاغارين قائلاً ) ... ... و اقتربت المعركة من قريتنا حتى مسافة ثمانية كيلومترات . و نحن الصغار كنا نرى و نعيش كل هذا . ذات يوم حلقت ست طائرات سوفياتية فوق قريتنا و بعدها سمعنا عدة إنفجارات . و عندما عادت مرة أخرى ، أدركنا أن واحدة منها قد أصيبت ، و لكنها عادت للظهور و هي تحترق . أخذت تطلق النار على التجمعات الألمانية في قريتنا ، ثم سقطت فيما بينهم تماماً . لقد كان الطيّار سوفياتياً حقيقياً . و عرفنا مباشرة بعد ذلك أن الألمان أطلقوا قذائفهم عليها من تلّة خلف القرية . و نحن الأطفال كنا نتحدث عن هذا البطل الذي لن ينتسى . و جاء الانتقام في اليوم التالي : من الطائرات الخمس الباقية . في الصباح حلقت هذه الطائرات المقاتلة و أبادت الموقع الألماني الذي أسقط الطائرة ، و لم ينج فاشيستي واحد في الموقع . و كنا نحن الأطفال و منذ الطلقة الأولى نتفرج على المعركة .
ذات يوم شاهدت طائرة ترمي المناشير ، فالتقطت واحدة و أخفيتها في جيبي مهرولاً إلى البيت . لم أكن أعرف القراءة بعد . في البيت قرأناها سوية : المنشور يتحدث عن هزيمة الفاشيست في ستالينجراد .
و ذات مساء أطل علينا جنديان سوفياتيان في كوخنا و تحدثا مع والدي الذي أعطاهما معلومات عن تحركات الفاشيست .
و خرج الألمان من قريتنا يوم 6 آذار 1943 م آخذين معهم أسرى من شباب و فتيات القرية و من بينهم أخي الأكبر فالنتين و أختي زويا . و جاء الجبش السوفياتي و أخبرهم والدي عن مواقع الألغام التي زرعها الألمان . بدت الحرب لنا و كأنها أبدية و كانت مؤلمة للجميع . و كان رسول البريد يعتبر أحسن ضيف حين يأتي إلى الأكواخ . كل يوم يأتينا بخبر مفرح أو بأخبار محزنة . و عرفنا فيما بعد أن أخي فالنتين و أختي زويا قد هربا من الأسر و أنهما إنضما إلى الأنصار لمحاربة الألمان الفاشيست . أخي إنضم لفرقة المدرّعات و أختي عملت في الطب البيطري في قسم الفرسان .
و بعد إنقطاع لمدة سنتين عدت إلى المدرسة . كانت لدينا معلّمة واحدة فقط لتدريس أربعة صفوف دفعة واحدة . و لم يكن لدينا لا حبر و لا ورق و لا دفاتر أو طباشير . و تعلمنا العدّ في درس الحساب بواسطة عبوات الرصاص الفارغة .
في صفنا كانت هناك خارطة لأوروبا معلقة على الجدار . كنا نغرس علماً أحمر حيثما تنتصر فيالقنا العسكرية . و لقد حرّر الجنود السوفيات بوخارست و صوفيا و تغلغلوا في بلغراد عاصمة يوغوسلافيا . و بدأت الجيوش السوفياتية تحارب الآن على الأرض الألمانية .
و الكل إنتظر إنتهاء الحرب . و ذات يوم جاءت أمي من مقر سوفيات القرية و هي تركض و عانقتني و قبلتني و صرخت قائلة : لقد قضي على هتلر ، لقد احتلت جيوشنا مدينة برلين .
و أخذت أركض في الشارع ، و رأيت فجأة الربيع في الخارج و أن الحدائق قد أزهرت . و رأيت زرقة السماء فوقي . و سمعت كل طيور الأرض تغني و أحسست بموجة من الأحاسيس المفرحة و الخواطر المختلطة تغمرني .
( و تقول والدة غاغارين ....... و فتحت المدرسة أبوابها في إحدى البيوت ، لأن الألمان كانوا قد أحرقوا المدرسة الأصلية . و شارك يورا في فرقة الغناء الجماعي في المدرسة و ألفوا مسرحية بعنوان " لقاء مع بطل سوفياتي " و قرأ يورا قصيدة وطنية بحماسة كبيرة و كأنما كان يؤدي القسم ) .
بعد الحرب ذهبنا للعيش في مدينة غاتسك . و في المدرسة بدا لي زملائي الطلاب و كأنهم حكماء نتيجة التجارب التي عاشوها في الحرب . معظمهم سقط آباؤهم في الحرب . و مر الوقت بسرعة . و انتقلت إلى الصف الخامس ، ثم انتقلت إلى مدرسة أخرى . و هناك دخلت في تنظيم الطلائع . و كنت ألعب على آلة النفخ الموسيقية في الأوركسترا . و كنت أمثّل في المسرحيات المدرسية . و أحببنا اللغة الروسية بفضل المعلمة ، فتعرفنا على بوشكين و ليرشتوف و مكسيم غوركي و تولستوي . و في الصف السادس أنتخبت عريفاً للصف .
أما مدرّس الفيزياء فكان إنساناً ذكياً بشكل غير عادي . لقد جاء من الجيش و لكن بدون أوسمة أو زخارف على الكتف . كان يعمل في السلاح الجوّي على شكل طيّار أو عامل على جهازاللاسلكي . في غرفة الفيزياء كان يعمل تجارب تقارب السحر : كان يضع ماء في قارورة و يحملها مهرولاً إلى الخارج حيث البرودة القاسية ، فتنفجر كالقنبلة . ثم كان يمشط شعره بمشط ، و كنا نسمع صوت فرقعات صغيرة و نشاهد شرارات زرقاء صغيرة . كان يستطيع أن يجعلنا نهتم بكل شيء . و كنا نحفظ قوانين الفيزياء هكذا بسهولة كما نحفظ القصائد و الأشعار . و منه تعلمنا كيف أن تفاحة ساقطة من الشجرة ساعدت نيوتن في صياغة قانون الجاذبية و اكتشافه .
و بعد أن أنهيت الصفوف الستة في غاتسك ، كان علي أن أفكر في تعلم مهنة أحترفها مستقبلاً . كنت أود إتمام الدراسة ، و لكن وضعنا المالي لم يكن يساعد على ذلك . و ربما فيما بعد سأتمم الدراسة .
و ذهبت إلى موسكو للتدريب في مصنع لسكب المعادن و خراطتها . كنا كطلاب نسكن سوية و نستيقظ سوية و كذلك نذهب سوية إلى المطعم و الملعب ... إلخ . كنا مجوعة رومانسية : نتجادل دوماً حول البطولة و الأبطال . و الحقيقة أن العمل في صهر المعادن أخذ يعجبني كثيراً و أصبحت أتمتع به .
( و تقول والدة غاغارين ... .... بأن والده كتب له رسالة و هو في المدرسة الصناعية في موسكو ، و حثه على زيارة خالته ماريا التي كانت تعيش بالقرب من موسكو على أن يساعد أقاربه في الأعمال المنزلية الصعبة كتصليح السياج و غيره و ذلك بدون تأجيل . و كان أليكسي يسأل أقاربه عن كيفية تصرف يوري عند زيارته لهم . و قال لي أليكسي ذات مرة : أكتبي إلى يورا بطريقتك الخاصة ، بأن الإنسان يجب أن يساعد غيره حتى و لو كان مشغولاً جداً ) .
و بالرغم من تعلمي هذا كنت دوماً أريد المزيد من التعلم . كنت أستعير الكتب و أغضب لأن اليوم يتكوّن فقط من أربع و عشرين ساعة . كانت سنوات الضياع تحت الاحتلال الفاشيستي مؤسفة و مؤلمة . كنت أحلم أن أتمم دراستي في معهد و أن أصبح مهندساً ، و لكن هذا يتطلب إنهاء الدراسة المدرسية العليا . فدخلت مع زملاء لي في مدرسة مسائية في الصف السابع و ذلك في العام الدراسي 1950 / 1951 .
و دخلت مدرسة لينين للرياضة و حصلت على علامة كاملة ، إذ كنت قبلها معروفاً كرياضي جيد و حصلت على أوسمة في مباريات عديدة . و عندما عدت إلى المصنع أخبروني بإمكانية دخولي إلى الكلية الصناعية في مدينة ساراتوف . ها قد أصبحنا طلاباً ، و لدينا شهادة إمتياز في الصف السابع ، فلم نكن بحاجة إلى إمتحان قبول . أحببت مادة الرياضيات و أدركت أنه في عصر الذرة هذا لا يمكننا العيش بدون الرياضيات . كل شيء يعتمد على الحسابات الدقيقة . و كل منا كان يحلم بالحصول على مسطرة حاسبة .
في الشرق الأقصى فإن الشعب الكوري المتطلع إلى الحرية قد قهر أعظم بلد رأسمالي في العالم : الولايات المتحدة . و كنا نبدأ عملنا كل يوم بالسماع لآخر المعارك على الجبهة الكوريّة . كانت تلك الساعة مترعة بالنقاشات حول البطولات .
و في هذه الأثناء تم إنتخابي عضواً في منظمة الشبيبة ، و كنت سكرتيراً للاتحاد الرياضي .
و ابتدأت السنة الدراسية الاخيرة و انتقلنا من النظرية إلى الناحية العملية التطبيقية . و هكذا أرسلوني إلى مصنع قايكوف في ليننجراد ثم إلى مصنع فولكان . هنا في هذه المدينة ، كل شيء كان يشير إلى الكفاح . لا توجد مدينة على الأرض هكذا غنية بالتاريخ الثوري مثل مدينة ليننجراد . هنا في هذه المدينة عمل بوشكين و غوغول و ديستوفسكي ... إلخ . ثم عدنا إلى مدينة ساراتوف . و كان موضوع الفيزياء في كلية الهندسة من أمتع المواضيع عندنا . كنا ندرك أن المهندس عليه أن يفهم الفيزياء جيداً ، حتى الكرة الأرضية تدور وفقاً لقوانين الفيزياء . و كنا نتناوب في إلقاء المحاضرات في حصة الفيزياء . و كانت محاضرتي بعنوان :
" تسيولكوفسكي و مبادئه حول موتورات الصواريخ و الرحلات ما بين الكواكب "
و قرأت الكثير من أعمال تسيولكوفسكي ( 1857 - 1935 ) الذي أخذ يسيطر على روحي . أعماله كانت أقوى من أعمال جول فيرن و هيربرت ويلز و بقية كتّاب قصص الخيال العلمي الآخرين Science Fiction . كل ما قاله هذا العالم الخالد تحقق منه بالتجارب الشخصية .
و أنهيت محاضرتي عنه بكلماته الخالدة و القائلة : " لن تبقى الإنسانية إلى الأبد على الأرض ... " و استمرت الدراسة في مسارها المرسوم . و كان يكفي أن أسمع هدير طائرة محلقة أو حتى أن أقابل طيّاراً حتى ينفعل قلبي . و كنت أعرف بوجود نادٍ للطيران في ساراتوف ، و كان الطلبة يتحدثون عنه يإيجابية كبيرة . و سررنا حين عرفنا بقبول هذا النادي لطلبة الصف الرابع في كلية الهندسة . و في نفس اليوم ذهبت مع أخين و تم قبولنا كأعضاء فيه .
و لكن و قبل أن تبدأ ساعات الطيران يتوجب علينا أن نهبط مرة واحدة على الأقل بواسطة المظلة و قالوا لنا وقتها : نود أن نرى فيما إذا كنتم تملكون الشجاعة ؟؟ ثلاثة ليالٍ متتاليات أخذونا إلى ساحة الطيران للقفز بالمظلة ، و لكن الطقس لم يساعد . فكنا نعود مرهقين و مثارين . كان معنا بعض الفتيات و كن مندهشات من هدوئي و اعتقدن أنني كنت قد قفزت بالمظلات سابقاً . و حينما جاء دوري للقفز بالمظلة لأول مرة وقفت خائفاً على جناح الطائرة ، فقل المدرّب : لا تكن مرتخياً يا يورا ، الفتيات ينظرن إليك في الأسفل . و قفزت . و كانت تجربة صعبة للغاية و لكنني نجحت . و بعد ذلك سألني المدرّب فيما إذا كنت أرغب بالتحليق معه بالطائرة . كان يتفحصني حتى يعرف هل يستطيع أن يعمل مني طيّاراً جيداً .
و تخرجت من كلية الهندسة بعلامة ممتاز . و كان بإمكاني الآن العمل في الإنتاج الصناعي أو الإستمرار في الدراسة .
كان مدرّب الطيران يطلب منا تطبيق كل التعليمات المعطاة لنا بدقة كبيرة . علينا تطبيق مقدار السرعات المطلوبة حتى الكيلومتر الواحد ، و مقدار إرتفاع الطائرة حتى المتر الواحد و اتجاه المسار حتى نصف الدرجة . و كنا نريد أن نصبح طيّارين عسكريين و بالذات طيّارين مطاردين للطائرات المعادية . و أدخلني المدرّب في تجارب طيران صعبة . ذات مساء ذهبت إلى المدرّب فلم يدخل معي الطائرة ، بل قال لي : حلّق بالطائرة لوحدك و اعمل دائرة في السماء . و عملت ذلك و هبطت في البقعة المحددة لذلك . وكان تعليقه : إنك فتى ممتاز ، تهانيّ .
و في اليوم التالي كتبت الصحيفة عني مع صورة لي و أنا جالس في قمرة الطائرة ، رافعاً يدي و منتظراً إشارة الإنطلاق . كنت سعيداً بخبر الصحيفة و فخوراً أيضاً . و حينما بعثت بالخبر إلى والديّ ، كتبت أمي إليّ قائلة : بالطبع نحن نفخر بك يا بنيّ ، و لكن إياك و الغرور .
و جاء وقت التخريج في نادي الطيران يوم 24 أيلول 1955 م و نجحت بدرجة إمتياز . بعض أعضاء نادينا إلتحق بالطيران المدني ، أما أنا فأردت أن أصبح طيّاراً حربياً . لماذا ؟؟؟ ربما لأنني شاهدت في طفولتي الطيارين الإثنين ، اللذين سقطا في قريتي . و كان يعجبني الزي العسكري و الانضباط العسكري . أردت أن أصبح مدافعاً عن وطني . و أرسلوني إلى مدرسة الطيران في أورن بورغ . و رافقنا المدرب مودعاً و قائلاً : المستقبل لجيلكم . أنتم ستحلقون في طائرات لم نكن نجرأ على الحلم بها .
و بدت لي مدينة أورن بورغ عجيبة ، لأنني كنت أرى الجمال و الخيول و غيرها في الشوارع .
على جدران المعهد في أورن بورغ كانت تتدلى صور مائة و ثلاثين بطلاً من أبطال الاتحاد السوفياتي تخرجوا من هذا المعهد . الآن بدأت حياتي كجندي ، و حصلت على البزّة العسكرية ، و كانت على أكتافنا إشارات الطيران الخاصة . و قد كنت فخوراً لانتمائي للجيش السوفياتي العظيم . كنت أشعر و كأنني في السماء السابعة .
و دائماً كنت أتذكر أسماء الأبطال من الطيارين الذين شاركوا في الحرب العالمية الثانية . و في نهاية درس التاكتيك كان يجري بيننا نقاش حيوي . كل واحد منا كان له بطله الذي يقتدي به . و تكثر أسماء الأبطال مع كثرة أسماء الطلاب . كنا نهتم بأخبار البطولات الحربية .
( و تقول والدة يوري غاغارين في كتابها : أدى يورا القسم العسكري في يوم 8 ديسمبر 1956 فكتب له أبوه بهذه المناسبة قائلاً : تذكّر يا يورا شيئاً واحداً ، أينما كنت ، تذكّر أن الفلاحين و العمّال يحترمون الشرفاء و الشجعان كما أن السوفيات يكرهون الجبناء . لن ينتصر ضعفاء القلوب على أعدائهم ، لأنهم لا يثقون بقوّتهم و لا بقوّة رفاقهم و لايثقون أيضاً بالنصر . يقاتل العسكري الشريف عدوّه حتي الرمق الآخير و حتى آخر قطرة دم ، و يفضل الموت بشرف . إن الشرف العسكري هو شعور وطني عميق ... ... إن الشرف مثل شعاع الشمس ، يجب أن ينفذ إلى أعماق حياة الإنسان و دراسته و خدمته العسكرية . و يجب أن يسري حب الخدمة في دم الإنسان ) .
( و يقول غاغارين ) لقد عرفت أن أمي شاركت في كتابة هذه الرسالة ، لأنها كانت دائماً تكرر عبارة : حتى آخر قطرة دم .
وكان علينا القيادة والتحليق في الطائرات النفاثة . ولم أكن بحاجة لامتحانات القبول : لأني تخرجت بامتياز من كلية الهندسة ، ثم إن نادي الطيران منحني شهادة وتوصيات جيدة .
وهنا تعرفت على فاليا . و هي لم تخرج مرة واحدة في حياتها من مدينة اورن بورغ . وكانت منذ تخرجها من الصف العاشر تعمل في مركز البرقيات في المدينة . كان أبوها يعمل طباخاً وأمها كانت ربة بيت . وقرّ قرارهم أن تدرس فاليا التمريض في مدرسة طبية . ولدينا هوايات مشتركة : حب الكتب والتزلج على الجليد والغرام في المسرح .
في مدينة غاتسك لم يحدث أن شاهدوني في بزة عسكرية ، وعلى كتفي زخرفة برتبة عريف . وبدت المدينة وكأنها كبرت كثيراً . والداي أصبحا عجوزين و أنا أصبح عمري عشرين عاماً .
في عيد ميلادي عام 1957 أهدتني فاليا صورتين لها مع الكلمات التالية : الانتظار فن عظيم . نحن الاثنين قدرنا واحد . حافظ على هذا الشعور الجيد حتى حلول اللحظة الأسعد .
وطرت في طائرة ميغ وهي أصعب من طائرة JAK - 18 . كنت قصير القامة . و لهذا السبب وضعت وسائد ( مخدّات ) على الكرسي حتى أستطيع الهبوط بشكل أفضل . و اقتربت مواعيد الامتحانات النهائية و لأيام عديدة لم نخرج من المطار . في هذه الأثناء حدث شيء هزّ العالم : إطلاق سبوتنيك الأول ، أول تابع للأرض ، سوفياتي الأصل .
وكنا في هياج وإنارة وتساءلنا ماذا بعد ؟؟ وكان نقاشنا صاخباً حول من سيكون رائد الفضاء الأول : هل سيكون أحد علماء أكاديمة العلوم السوفياتية ؟ أم هو مهندس ؟ عالم أحياء ؟ أم أحد بحّارة الغواصات ؟ أنا كنت أقول : يجب أن يكون طياراً مدرّباً .
ومن نسج خيالنا و من قصص الخيال العلمي ، أخذنا نرسم شكلا ً لسفينة فضاء مأهولة .
وأخذ علماء العالم يتحدثون عن هذا السبق التاريخي وعن مستقبل غزو الفضاء وسيناريوهاته .
وجاء يوم عيد ميلادي الثاني حين حصلت على وثيقة تقول :-
إننا نقترح أن تلميذ الطيران يوري أليكسوفيتشن غاغارين يترقى إلى رتبة ملازم ، فهو أثناء تعلمه في مدرسة الطيران أظهر انضباطيته ووعياً سياسياً . كما أنه يعرف قوانين الجيش السوفياتي و سار على هديها . وهو في التدريب والرياضة ... إلخ .
هذه الوثيقة هي التي فتحت لي الطريق الى الطيران و مرّة أخرى شعرت أنني في السماء السابعة :- وافقت فاليا على الزواج مني ، واتفقنا على الاحتفال بزواجنا مرتين : مرة في اورن بورغ بمناسبة الاحتفال بالذكرى الأربعين لثورة اكتوبر الاشتراكية ومرة أخرى في مدينة غاتسك . كانت قد انقضت سنتان على تعرفنا على بعضنا البعض .
في 3/11/1957 اطلق إلى الفضاء ، سبوتنيك الثاني وعلى متنه الكلبة " لايكا " ، أول كائن حي يدور حول الأرض في مركبة فضائية
في اليوم السابق للأحتفال بالذكرى الأربعين لثورة أكتوبر الإشتراكية ، أعلنت أسماؤنا كضباط في الجيش السوفياتي مع لقب طيار عسكري . واحتفلنا بعيدين : عيد الترقية وعيد ثورة أكتوبر .
وأثناء حفلة زواجنا فتحنا المذياع وسمعنا صوت خروتشوف المحبوب يقول : قمران سوفياتيان يدوران حول الأرض . وعلقت فاليا بقولها إن الرفيق خروتشوف يشاركنا زفافنا .
الآن أنا طيار مقاتل وأنا ضابط ، ولديّ زوجة تحبني ولأول مرة في حياتي لدي غرفة خاصة . وغادرت المعهد بعلامة إمتياز . ما العمل الآن ؟؟؟؟
استطيع السفر الى الجنوب أو البقاء في اورن بورغ . ولكنني قررت الذهاب والعمل في المكان الأصعب : الى الشمال ، في قاعدة زابوليار العسكرية في منطقة القطب الشمالي ، حيث الظروف أكثر خشونة وصعوبة ، حتى فاليا لم تستطع فهم دوافعي . لقد أرعبها هذا القرار . و اتفقنا أن تبقى هي في أورن بورغ حتى انتهاء دراستها ، ثم تلتحق بنا في الشمال . ولأننا كنا ضباطاً فقد جلبنا انتباه الجميع هنالك ، الذين كانوا ينظرون إلينا ويتساءلون : ماذا يفعل هؤلاء الحمقى هنا ؟
والتدريب هنالك في الظروف الصعبة ، كان يتطلب شجاعة وإرادة و نباهة . قال مدرّبنا : يجب على المرء أن يعمل حسابات دقيقة و أن يضع ثقته في هذه المعدات ، وبالطبع لا يجب السيطرة فقط على الطائرة وإنما أيضاً على الأعصاب . في طائرة حربية ، فإنك أنت الإله والقيصر والطيّار والحارس ، كلهم في شخص واحد . و ذات يوم مررتُ في تحليق صعب وخطير ، ولكنني نجحتُ في الهبوط سالماً وجاءني مديح قوي من المدرّب .
في منتصف أيار 1960 أطلق سبوتنيك الثالث وهو أكبر حجماً وأثقل وزناً من الأول و الثاني .
وتناقشنا فيما بيننا حول هذه التطورات نقاشاً صاخباً و أدركنا أن أول طائرة بنيت بعد قرون من تحليق أول بالون في الهواء . و بعد ذلك ب 75 سنة ( أي نصف الفترة بدأنا بإطلاق أول قمر صناعي . والآن خلال أشهر ثلاثة أقمار صناعية . بمثل هذه الوتيرة من التطور فإنه لن يمرّ وقت طويل حتى يحلق إنسان في الفضاء الكوني . دار سبوتنك الأول 1400 مرة حول الأرض بينما دار الثاني ألف دورة وقطع طريقاً تزيد على مائة مليون كيلومتر . وأدركنا بالطبع بأن كل هذا ما هو إلا تحضير لتحليق الإنسان في الكون .
انهت فاليا دراستها و في آب 1958 التحقت بنا في الشمال . فصل الخريف قصير و وصل الشتاء بعده وابتدأ الليل القطبي الطويل . فاليا وأنا كنا نراقب الشفق القطبي ، الذي كان يسود نصف السماء . كان الشفق القطبي يعمل مسرحاً سماوياً رائعاً . و في المساء كنت أزور جامعة مسائية لدراسة الماركسية اللينينية .
في الثاني من يناير 1959 أطلق السوفيات صاروخاً متعدد المراحل باتجاه القمر . لقد كان حدثاُ يرمز إلى حقبة كاملة . لقد دخل الإنسان غمار الكون .
كان هذا هدية بمناسبة انعقاد المؤتمر الحادي والعشرين للحزب الشيوعي السوفياتي . وقال خروتشوف في بيان للمؤتمر : إن أول قمر صناعي في النظام الشمسي هو سوفياتي الصنع ، وفي أعماق الأعماق في الفضاء ، كان يحمل على متنه و بكل افتخار شعار الإتحاد السوفياتي والعبارة التالية : اتحادات الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية / يناير 1959 " .
وفي هذه الأيام قدمت طلباً للإنضمام للحزب الشيوعي السوفياتي و جاءت توصيات عديدة لترشيحي لهذه العضوية . و في أوائل نيسان 1959 ولدت فاليا طفلة أسميناها Lenotschka لينا . وأخذت التحليقات الجوية منحى أكثر صعوبة : نطير مساء فوق بحر هائج ، ونحن على أهبة القتال كما هو مطلوب في المعارك الجوية . وقال مدرّبي ذات مرة : " لقد أصبحت قوياً أيها الأخ " . و مما ساعد على نجاحي هو ممارستي لأنواع عديدة من الرياضة : مثل كرة السلة و التزلج .
وعندما أصبحت عضواُ في الحزب أسندت إليّ مهمة تحرير نشرة " الكفاح " ، و هي تتحدث حول نجاحات الطيارين و انتقاداتهم ... و تربط كل ذلك بالأحداث السياسية في بلدنا .
حدثان هامّان أجبرا العالم على الإصغاء في عام 1959 : رحلة خروتشوف إلى الولايات المتحدة و كذلك إطلاق صاروخ باتجاه القمر .
كنت أقرأ كل ما يجيء في الصحافة حول هذه الرحلات الفضائية . وشعرت بنفسي منجذباُ بشكل لا يقاوم إلى الكون الخارجي . وفكرت جدياً بكتابة رسالة ، من أجل قبولي مرشحاُ للتحليق في الفضاء الكوني . وبدأت أفهم الآن أنه عليّ ألا أتأخر بتقديم هذا الطلب وأن التحق بمجموعة رواد الفضاء . ولم أكن مخطئاُ : فقد دعوني لمقابلة اللجنة الطبية . وكانت الفحوصات بشكل غير عادي وعلى الأخص فحص العيون ، حيث أن العلامة يجب أن تكون كاملة : لا إنحراف ولا حساسية بالألوان ، ثم إن الرؤية يجب أن تكون كاملة . و تتالت الفحوصات الطبية من قبل اختصاصيين آخرين . و وضعونا في أجهزة دوّارة للفحص حول الكلى والقلب . واجتزت المرحلة الأولى ولم أفقد الأمل . و لم أخبر فاليا بذلك ... كانت تعتقد أنني سافرت لإنجاز مهمة روتينية . والحقيقة أنني كنت قلقاً حول إمكانية قبولي : قامتي قصيرة ، ولست قوي البنية كالأخرين . ثم وصلتني رسالة ثانية طالبين حضوري للجنة الطبية . و استمرت الفحوص الطبية والنفسية : كانوا يبحثون عن نقاط ضعف مخفيّة ويدرسون ردود الفعل على كل المؤثرات .
وضعونا في غرفة الضغط وتحت مختلف درجات من ضغط الهواء المنخفض وفحصوا التنفس بالأكسجين تحت ظروف الضغط المرتفعة وأداروا أجسامنا في كاروسّل Centrifuge والتي تدور كأرجوحة الخيل . وفحصونا على قوة الذاكرة ودرسوا سيرة حياة عائلتنا بالكامل وأيضاً حول مستوانا الثقافي والإجتماعي . كان مطلوباُ منا : الحماس والذكاء والأعصاب القوية والإرادة الحديدية والصمود والحيوية وحب الحياة و حضور البديهة . و استمرت الفحوصات عدة أسابيع ، وكان إسمي من الطيّارين المرشحين .
ثم دعيت مجموعتنا للمثول أمام الآمر الأعلى للقوات المسلحة الجوية ، شارك فيها العديد من الجنرالات . وشاهدت هنالك واحداً من أوائل أبطال الإتحاد ا لسوفياتي :Nikolai Perowitsch Kamanin . ولأول مرة سنحت لي الفرصة للتحدث مع قائد القوات الجوية المسلحة في الإتحاد السوفياتي . و في نهاية اللقاء قال لنا : إن الوطن يعتمد عليكم .
تركت فرقتي العسكرية وودعت رفاقي وذهبت الى مكان عملي الجديد . وبدأت بالنسبة لي حياة جديدة ومهمة . وفي عيد ميلادي السادس و العشرين ( آذار 1960 ) أخبرت فاليا بأن وظيفة جديدة تنتظرني و أنه علينا الانتقال إلى وسط البلاد . وتأقلمنا بسرعة على جو العمل في الموقع الجديد . في البداية كان التركيز كثيراً على تعويدنا لما ينتظرنا في الكون و التعرّف على العوامل المؤثّرة على وظائف الأعضاء . و كل هذه العوامل يمكن وضعها في التصنيفات الثلاثة التالية :
الأولى / العوامل المؤثرة على الجسم في الفضاء الكوني :
*
ضغط الهواء القريب جداً من الفراغ.
*
إختلاف تكوين الوسط الغازي عما هو على الأرض.
*
التغييرات الدراماتيكية في درجات الحرارة .
*
الأشعة المتأينة .
*
خطر النيازك.
الثانية / العوامل المتعلقة بالصاروخ :
*
الضجة و الإهنزاز و الإرهاق الشديد و إنعدام الوزن.
الثالثة / الجو الإصطناعي في المركبة الفضائية :
*
ضيق الغرفة ( المكان ) في المركبة.
*
قلة إمكانيات التحرك في الغرفة الصغيرة .
*
التوتر العصبي .
*
القوّة الذهنية.
*
الإنعزالية و الوحدة .
وعرفنا أنه منذ عام 1951 أطلقت كائنات حية الى الفضاء في صواريخ ، بهدف دراسة تحملها .
و أولى التجارب الناجحة حتى 112 كيلو متراً أثبتت أن الكائنات الحية تصمد لفترات قليلة في الفضاء ... ثم حتى ارتفاع 200 و بعدها حتى إرتفاع 450 كيلو متراً كانت ناجحة . السوفيات استعملوا الكلاب كتجارب بينما استعمل الأمريكيون السعادين الصغيرة والفئران .
و في هذه الأثناء كان العمل جارياً على قدم و ساق في تهيئة المركبة الفضائية .
ولقد كانت تدريباتهم لنا لتحضيرنا للسفر الفضائي مفهومة جداً ، و كان ذلك ضمن برنامج غني و كبير جداً . وهذا يعني المعرفة في أهم الأسئلة النظرية والمواهب العلمية لكيفية قيادة السفينة الفضائية . علينا أن نعرف شيئاُ عن مباديء وأساسيات تقنية الصواريخ والطيران الفضائي وأيضاُ بناء السفينة الفضائية و كذلك الفلك والجيوفيزياء والطب الفضائي .
و كنا كل يوم نقضي ساعة من الرياضة الباكرة تحت مراقبة الأطباء . وهنالك تدريبات خاصة أخرى . وهنالك السباحة والقفز بالمظلات ، و هي هنا تكون صعبة ، لأن التركيز يكون على الفتح المتأخر للمظلة فوق اليابسة وفوق الماء . وفي وقت قصير كنت قد قفزت أربعين مرة . والملاحظ هنا أنه لا توجد قفزة شبيهة بالأخرى . و قد عرفنا أن فاسيلي رومانياك قد قفز بالمظلة ثلاثة آلاف مّـرة . أمّا مدربنا نيكولاي قسطنطينوفيتش فهو واحد من أشهر القافزين بالمظلات في الإتحاد السوفياتي ، فهو حاصل على العديد من الأرقام القياسية في العالم ، من بينها أرقام قياسية في تأخير فتح المظلة أثناء القفز : في هذه القفزة القياسية سقط لمسافة 14500 متراً قبل أن يفتح المظلة .
واطلقت سفينة فضاء بوزن أربعة أطنان و نصف الطن ، وفيها غرفة محكمة الإغلاق وفيها كتلة بوزن إنسان ، مع كل ما يحتاجه الإنسان وأيضاً معدات موصولة بالكهرباء . و هكذا عرفنا الآن أن المركبة الفضائية التي سوف يحلق فيها الإنسان قد تم بناؤها .
الآن جاء دور التدريب في جهاز الكاروسل Centrifuge ، كلما دارت بسرعة أكبر ، كلما زاد الإجهاد والضغط على جسم الإنسان ، فيشعر المرء أن جسمه أصبح أكبر وزناً , كنت أشعر وكأن حملاً ثقيلاً بدأ بضغط علي ... وهذا ما كنا نعايشه لفترات قصيرة في الطيران . ولم أكن استطيع تحريك أي اصبع . هذه الظاهرة يمر بها رائد الفضاء في السفينة عند إطلاقها وقبل وصولها المدار ، ثم بعد مغادرتها المدار عائدة إلى الأرض . وفي العودة يكون ذلك بشكل أقوى ... ولذلك يكون الإنسان مضطجعاً على ظهره حتى يتوزع الضغط على الجسم كله . لا يمكن للمرء إغلاق العينين ويصعب التنفس وتتشوه ملامح الوجه وتزداد ضربات القلب ويرتفع ضغط الدم الذي يصبح ثقيلاً كأنه الزئبق . و في هذه الأثناء يقوم الجهاز بقياس الأوضاع الجسمانية و قابليات أعضاء الجسم للقيام بمهامها . و يراقبون أيضاً درجة قوة الإنتباه وسرعة البديهة . وفي حالة السرعات الكبيرة كان علينا ذكر الأرقام التي كانت تضاء فجأة على لوحة .
وأصدرنا جريدة حائط مطابقة لحالتنا المزاجية ، تحت أسماء مثل القمر والمريخ والزهرة . وذات مرة ظهرت بها مقالة عني بأنني الأفضل بين زملائي في الدروس النظرية وفيما بعد بأنني الأفضل أيضاً في التمارين العملية . المقالة ظهرت بخط اليد وفي نموذج واحد بحيث لم يقرأها سوى عدد قليل . إلا أنني شعرت بالفخر و الإعتزاز .
إن أول رائد فضاء سيكون واحداً منا ، شخصاً واحداً فقط ، بينما سيكون الباقون للقيام فيما بعد بمهمات أصعب .
وأردت كعضو في الحزب الشيوعي أن أحلق في الكون . وجاءت التزكية على العضوية من الرفاق في القاعدة العسكرية في القطب الشمالي . وجاءت تزكيات أخرى مع مديح قوي لشخصيتي وانتمائي الوطني والحزبي والكفاءات ......
في يوم 16 / حزيران / 1960 قدمت طلب ترشيحي لعضوية الحزب وبعد شهر من ذلك تم قبولي عضواً في الحزب ( رقم العضوية : 08909627 ) . وفي نفس اليوم كتبتُ عن ذلك الى والدي الذي كان منذ فترة طويلة يطلب مني الإنضمام الى الحزب .
وتعرفنا فيما بعد على رئيس لجنة تصميم المركبة الفضائية ( عرف إسمه فقط في الثمانينات من القرن الماضي و هو كوروليف Koroljew ) الذي أخذنا إلى " الطفلة " كما كان يسمي المركبة الفضائية . إنها أهم و أفضل ما خلقه التكنيك الحديث . وراح يشرح لنا كيفية الإنطلاق في الفضاء وعمل السفينة . و عندها فقط عرفنا أن قمرة الملاح الكوني ليست عمياء كما كنا نعتقد سابقاً ، لها العديد من النوافذ وزجاجها مقاوم للحرارة . وهي أوسع من قمرة قائد طائرة ، حيث يستطيع رائد الفضاء فيها القيام بعمليات عديدة و بمشاهدة ورصد الأرض . وفي حالة الطواريء يستطيع بنفسه قيادة المركبة . و في أسفل لوحة مفاتيح الأجهزة أثبتت كاميرة تلفزيونية بحيث يبقى الملاح الكوني تحت المراقبة الدقيقة من القاعدة الأرضية . كل واحد منا كان يدخل المركبة منفرداً و يجلس بضع دقائق على مقعد الملاح الكوني . لم يلمس أحد حتى الآن هذه الأجهزة ، بل ولم يرها غير الذين بنوها و صمموها . إنها باختصار شديد أعجوبة تكنولوجية : المعدن نوع جديد لم تعرفه أفراننا لصهر المعادن ، ونوع جديد من الزجاج والبلاستيك و النسيج فائق الثبات و الطلاء المقاوم ... الخ .
الآن انتقلنا في تدريبنا إلى الجهاز الهزاز ، الذي يعمل إرتجاجات و اهتزازات تماثل اهتزازات المركبة الفضائية عند تشغيل الصاروخ . هذا الجهاز كان يهزنا لمدة ساعة أو أكثر كما في حالة الحمّـى . كل الجسم كان يهتز كحبل مشدود . وأخذنا نتعود على قمرة الحرارة حيث نجلس لفترة طويلة في درجات حرارة عالية . بالنسبة لي ، فقد تعودت على ذلك أثناء عملي في أفران صهر المعادن . و كنت أعود إلى البيت مرهقاً جداُ .
و في يوم 19 آب 1960 أطلقت مركبة فضائية سوفياتية ثانية و وضعت في مدار حول الأرض . وفي قمرة المركبة وضع كل ما يحتاجه الإنسان أثناء التحليق في الفضاء . وعلى متنها كانت الكلبتان Strelka & Belka . وبعد ثمانية عشر دورة هبطت المركبة على الأرض سالمة ولكن على بعد عشرة كيلومترات عن المكان المحدد لها . ولأول مرة عادت أحياء دارت حول الأرض عدة مرات ، عادت حية من الكون . إنه لحدث كبير ، بحيث أن وسائل الإعلام العالمية تحدثت عنه باستفاضة . وشاهدنا بواسطة كاميرة التلفزيون كيف تصرفت الكلبتان و كيف كان مزاجهما أثناء التحليق :
عند الإطلاق إرتعبتا خوفاً وكانتا تتطلعان الى أرضية المركبة ، و كانتا تصغيان إلى هدير الموتورات والأجهزة . كانتا في اللحظات الأولى متوترتين و قلقتين . وكلما ازداد تسارع المركبة كلما ازداد الضغط عليهما ، ودفعهما أكثر باتجاه المقعدين . الكلبة Strelka دعمت نفسها على أقدامها محاولة دعم نفسها ضد القوة الضاغطة . ثم لم تحاول الكلبتان الحراك حتى وضعت السفينة في المدار وزال الضغط عنهما ودخلتا حالة انعدام الوزن . الرأسان والأقدام كانت مدلاة نحو الأسفل . و بدا كما لو أنهما قد توفيتا . وبعد فترة قصيرة دبّت الحياة فيهما . أصبحت Strelka غاضبة و بدأت في النباح . ثم تعودت الكلبتان بسرعة على انعدام الوزن وبدأتا بتناول الطعام من الجهاز الآلي . كم كان ممتعاً و مهماً مشاهدة كل ذلك . وهذا الذي عملته الكلبتان وتحملتاه كان بدون تفكير منهما ، كنا نحن نفكر بدلاً عنهما .
ما يهمنا في المقام الأول هو حالة انعدان الوزن . وهذا ما تدرينا عليه في الطائرات النفاثة وسرعاتها الهائلة ، ولكن في كل مرة لمدة عشر ثوان فقط . وبالرغم من قصر هذه الفترة إلا أننا استطعنا القيام فيها بعمل اتصال بواسطة جهاز اللاسلكي .
ثم كنا نقضي بضعة أيام في غرفة صغيرة ومعزولة . هذا التدريب يساعدنا على الصمود النفسي كروّاد فضاء . كنا معزولين عزلاً تاماً عن كل أشكال الحياة ، حتى إنه لا وجود لصوت أو ضجة أو لحركة في الهواء أو أي شيء . ولا أحد يتكلم مع أحد . كان علينا تشغيل جهاز الإرسال فقط من جانب واحد : نرسل الإشارة ولا نعرف فيما إذا وصلت إلى الجانب الآخر . مهما يحدث لا أحد يأتي للمساعدة . أنت وحيد ولا يمكنك الإعتماد إلا على نفسك . وحتى حين تخرج ، فإنك لا تعرف كم هي الفترة التي مكثتها في العزلة . هل مكثنا ساعات أم عدة أيام . هذه التجربة ضرورية ، لأنه قد يحدث طاريء في الفضاء فينقطع الاتصال تماماً مع الأرض . إن رائد الفضاء يجب أن يدرب نفسه ونظام أعصابه وحالته النفسية على كل حالة طارئة .
لم يكن جميعنا يتحمل هذه التدريبات : الغرفة الإنعزالية وغرفة الحرارة وجهاز الكاروسل Centrifuge وجهاز الإهتزاز . وهذا مما سهّل على المسؤولين مهمة إختيار أحسن المرشحين . وهكذا تقلص عدد المرشحين للتحليق الكوني تقليصاً كبيراً .
1 /12/1960 أطلقت إلى الفضاء المركبة الفضائية السوفياتية الثالثة وعلى متنها الكلبتان Ptscholka & Muschka إضافة لبضعة حيوانات صغيرة كالحشرات والنباتات . ولكن وعند هبوط المركبة بدأت تتوهج وتحترق . وكانت صدمة ، لأنهم خافوا من التأثير السلبي على روّاد الفضاء .
وتدربنا على المركبة الفضائية بحيث أننا نستطيع ونحن مغمضو الأعين أن نعثر على كل زر وكل مقبض . وتدربنا جيداً على القيادة اليدوية للمركبة وتعلمنا كيفية تحديد الوجهة والهبوط وأنظمة السيطرة وكيفية تشغيلها . وهكذا فكر العلماء بكل حركة يمكن أن نعملها . وعلينا الاتصال لاسلكياً مع الأرض . لقد تدرينا على الأرض تماماً كما لو كنا في تحليق حقيقي . و قد تم كل ذلك و نحن نرتدي بذلة الفضاء والخوذة والقفازات المغلقة بشكل محكم hermetisch و هما ضروريتان للحياة البشرية في حالة حدوث عطل في السفينة الفضائية أو تعرضُها لخراب كبير . و في هذا اللباس الفضائي كان علينا التدريب على الأكل والشرب .
و اختفت المرارة نتيجة فشل رحلة المركبة الفضائية الثالثة والمصير البائس للكلبتين فيها . و اختفاء المرارة هذه كان بسبب نجاح سبوتنيك الرابعة ، وزنها أكبر ( ستة أطنان و نصف ) . وبعد ذلك باسبوع أطلق سبوتنيك آخر باتجاه الزهرة .
في 3 /3/ 1961 ولدت لنا طفلة ثانية أسميناها غاليا .
في 9 / 3 / 1961 أخبرني الرفاق بأنني سأستلم هدية في يوم عيد ميلادي . وهبطت سبوتينك الرابعة بسلام و على متنها الكلبة تشيرنوسكا وحيوانات أخرى ودمية تشبه الإنسان .
و في هذه الاثناء كانت الولايات المتحدة تدير برنامجاً ناشطا لغزو الفضاء . وأوردت وسائل الإعلام الأمريكية أن هنالك سبعة مرشحين للتحليق في الفضاء في كبسولة تشبه الجرس . وكان على الصاروخ الأمريكي أن يصل إلى ارتفاع 115 ميلا ً و تكون مدة التحليق ربع ساعة تقريباً . ثم و بعد ذلك بقليل أذيع أن هناك ثلاثة مرشحين تم إختيارهم و تدريبهم لمدة 22 شهراً تدريباً خاصاً للطيران الفضائي ، و هم Shepard و Grissom and Glenn نشرت الصحف الأمريكية صوراً لهم .
وأطلق الى الفضاء كلب أسميته مازحاً Swjosdotschka ، ولكن الإسم قبل رسمياً . وعايشت تجربة الإطلاق وتشغيل وإطلاق الصاروخ الهائل . كنت أتصور نفسي مكان هذا الكلب ، وأنني أُحلق في الفضاء .
فيما بعد علمت أن أحد الجنرالات قد حضر عند فاليا و أخبرها عن مهمتي الجديدة و طلب منها خلق جو ملائم في البيت بحيث لا تلهيني عن مهمتي الجديدة .
كنت أرغب في أن يكون إسم سفينة الفضاء ، التي سيحلق فيها أول رائد فضاء في التاريخ ، أن يكون إسمها "فوستوك " Wostok ( = الشرق ) . و فعلاً قبل هذا الإسم فيما بعد .
في الثامن من نيسان 1961 إجتمعت اللجنة الحكومية في مطار بايكونور الكوني ، و قرروا أن يكون رائد الفضاء الأول هو غاغارين و الرديف في حالة الطوارىء هو جيرمان تيتوف . في التاسع من نيسان أخبروني شفوياً بهذا القرار و فقط يوم الحادي عشر من نيسان ، أي قبل الإطلاق بيوم واحد أبلغت رسمياً بأنني سأكون أول رائد فضاء يحلق في سفينة فوستوك الأولى . و طرنا ليلاً إلى قاعدة بايكونور ومعنا في الطائرة طبيب وكذلك المدرب الشهير للطيران ، و معنا كان رديفي جيرمان تيتوف . و جاء اليوم السابق للإطلاق أمضيناه بكل هدوء واسترخاء و شريط موسيقى كان يلعب بصوت هاديء أراح أعصابنا . وفي المساء لعبنا البلياردو . و تناول ثلاثتنا ( أنا و الطبيب و جيرمان تيتوف ) طعام العشاء من الأنابيب كما في التحليق الفضائي . و أجروا لي فحوصاً طبية : ضغط الدم ودرحة الحرارة والنبض . كان ذلك في الساعة 20 : 21 مساء . و قيل لنا : اذهبا الى النوم . و هكذا ذهبنا للنوم ، أنا و تيتوف ، ورفضنا أن نأخذ حبوباً للنوم . و سرعان ما غرقنا في سبات عميق .
وبعد نصف ساعة دخل الطبيب وتأكد من أننا نائمان فعلاً . و في الساعة الثالثة جاء كوروليف وتأكد من نومنا . و في الخامسة والنصف صباحاً أيقظنا الطبيب من نومنا . وفي لحظة واحدة كنا خارج الفراش . وبعد التمارين الرياضية المعتادة تناولنا الفطور بواسطة الأنابيب . و تم فحص المعدات و عمل الفحوصات الطبية . كان كل شيء عادياً . ثم لبسنا البذلة الكونية من قطعة واحدة . وهي خفيفة ودافئة و بلون زرقة السماء . و ساعدني الرفاق في لبس البذلة الفضائية البرتقالية اللون ، والتي تسمح بحركات الجسم والقيام بمهماتها حتى وإن فشلت المركبة بالوصول الى المدار . و على رأسي وضعت الخوذة . وكان مقعد المركبة مزوداً بمظلة باراشوت خاصة . وكان هذا مهماً للغاية : في حالة اضطرار السفينة أن تهبط في مكان غير مناسب ، فإن المقعد سيقذف به إلى الهواء وعلى ارتفاع ليس بالكبير ، ثم يهبط رائد الفضاء بالبارشوت و منفصلاً عن المقعد ، بينما تتابع المركبة الفضائية هبوطها العادي .
وجاء مصمم المركبة الفضائية ( كوروليف ) ولأول مرة أراه قلقاً ومتوتراً ومرهقاً . ربما لعدم نومه في الليلة المنصرمة . و تدلت إبتسامة خفيفة من فمه الصارم . ويبدو أنه انتعش بعد أن لاحظ هدوئي وهدوء تيتوف . وجاء الباص و أجلسوني على المقعد المخصص للتحليق الفضائي والشبيه بمقعد قمرة المركبة الفضائية . وسار الباص سريعاً . و من البعيد شاهدتُ جسد الصاروخ الصاعد إلى عنان السماء والذي كان مزوداً بستة محركات . وكلما اقتربنا إزداد حجم الصاروخ وبدا كما لو أنه منارة . و رأيت رئيس المصممين ( كوروليف ) والمنظّر للطيران الكوني . كانا يقفان جنباً إلى جنب .
حتى أقرباء اللجنة الحكومية المخصصة لأول رحلة فضائية في تاريخ البشرية ، كانو هنالك . إضافة إلى مدير قاعدة الإطلاق ورجال الإطلاق العلماء والعاملون في التصميم وأخي العزيز تيتوف . ودخلت على رئيس اللجنة الحكومية وقلت :-
الطيار غاغارين ،